تشهد هذه العقود من تاريخ الأمة المسلمة صراعاً محتدماً بين قوى الكفر والطغيان والاستكبار وبين الأمة المسلمة وطليعتها المجاهدة، وقد بلغ هذا الصراع ذروته بغزوتي نييورك وواشنطن المباركتين، وما تلاهما من إعلان بوش لحملته الصليبية الجديدة ضد الإسلام، أو ما أسماه بالحرب على الإرهاب
وقد اتضح من أحداث هذه الحرب ووقائعها مدى الحاجة الماسة لإدراك خطورة عقيدة الولاء والبراء في الإسلام، ومدى التفريط والتقصير في القيام بأمانة هذا الركن العظيم في العقيدة الإسلامية، ثم مدى الخداع الذي يمارسه أعداء الإسلام وأتباعهم وأعوانهم على جماهير الأمة المسلمة بطمس معالم هذا الركن الركين، وإظهار الأعداء بصورة الأولياء ورمي الأبرار بتهم الفجار
هؤلاء الأعداء الذين يشنون حملة تضليل فكرية وعقدية موازية لحملتهم الصليبية العسكرية، سعياً منهم في ترقيع الواقع المهترئ، الذي تمثله أنظمة الحكم في بلادنا، بكل فسادها وإفسادها ومذلتها لقوى الطغيان العالمية الصليبية اليهودية
هذه الحملة التي تهدف إلى طمس الحدود الفاصلة بين الحق والباطل حتى يختلط الأعداء بالأولياء بل وتهدف أيضاً –في محاولتها المحمومة لمواجهة المد الأسلامي الجهادي المتصاعد- إلى تزيين واقع التخاذل والتبعية والتخاذل والإذعان لغير الله وتحكيم غير شرعه، جنباً إلى جنب مع تشويه دعوة الحق والجهاد والعزة التي ترفع رايتها طلائع الأمة المجاهدة وأنصارها والجماهير الملتفة حولها
وكلما ازدادت قوة دعوة الجهاد والحق والعزة ازدادت في مقابلها دعوة الباطل والقعود والمذلة، حتى أن أصحابها لم يجدوا حرجاً في أن يتبنوا دعوة غلاة المرجئة الأوائل رغم صياحهم ولغطهم المستمر أنهم حماة عقيدة السلف والقرون الأولى الفاضلة، ولم يجدوا أية غضاضة في أن يتبنوا مقالات العلمانيين الفجرة رغم زعمهم أنهم حراس الشريعة والمدافعون عنها، فلا يضر المرء عندهم أن يكون موظفاً مدافعاً عن الحكومة في جيشها أو أجهزة أمنها أو إعلامها أو قضائها يدعو إلى العلمانية ويروج للاعتراف بإسرائيل والاستسلام لها، ويكون في نفس الوقت مسلماً تقياً ورعاً، يصوم ويصلي ويحج ويزكي!!
حتى لقد رأينا أعرق الأسر الحاكمة في خدمة المصالح الأمريكية وهم يزعمون حماية عقيدة التوحيد، ورأينا أئمة الكفر الذين يفرضون الدساتير العلمانية ويحكمون بالقوانين الوضعية ويتسابقون في سياسة التطبيع مع إسرائيل وهم يرعون مسابقات تحفيظ القرآن لطلاب الجامعات التي يمنعون الحجاب فيها، ورأينا أشد الجلادين تعذيباً للمسلمين وهم يحجون ويعتمرون، ورأينا قطاع الطرق في أفغانستان يقبضون رواتبهم من القوات الأمريكية، ويدفعهم الأمريكان أمامهم ليقاتلوا المجاهدين، ثم بعد ذلك يتبركون بملابس شهداء المجاهدين وبتراب قبورهم!! كما حكى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عن التتار فقال: "حتى إن الناس قد رأوهم يعظمون البقعة ويأخذون ما فيها من الأموال، ويعظمون الرجل ويتبركون به ويسلبونه ما عليه من الثياب، ويسبون حريمه، ويعاقبونه بأنواع العقوبات التي لا يعاقب بها إلا أظلم الناس وأفجرهم، والمتأول تأويلاً دينياً لا يعاقب إلا من يراه عاصياً للدين، وهم يعظمون -من يعاقبونه- في الدين، ويقولون إنه أطوع منهم، فأي تأويل بقي لهم؟" الفتاوى الكبرى، مسألة 813، ج4 ص332 وما بعدها
ولا غرابة في ذلك فإنها آلة الباطل المرغية المزبدة التي تخلط كل شيء في سعيها لاستمرار الفساد الجاثم فوق صدورنا والاحتلال الرابض فوق تراب أمتنا الطاهر وخاصة في أقدس بقاعه: الحرمين الشريفين والقدس المباركة
هذه هي حصيلة دعوتهم لأي متأمل متدبر؛ استمرار الحكم الفاسد المفسد الخارج عن الشريعة، وفتح البلاد لقوات الحملة الصليبية الجديدة، هذا هو هدفهم المرصود في كل كلمة ينطقون بها أو يذيعونها أو يطبعونها
هذه الفئة التي فضح القرءان أسلافها الأوائل وكشف حقيقتهم وبين أنهم يبغون الفتنة في الصف المسلم، وأنهم أسرع الناس إلى قبولها، وأنهم المسارعون إلى الكفار ضماناً لمصالحهم الشخصية ومنافعهم المادية قال تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ* لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالا ولأوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ التوبة 46 –47، وقال سبحانه: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا*وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا*وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا الأحزاب 12 -14
لهذا رأينا أن أهم فتنة –في هذا العصر- تهدد التوحيد والعقيدة الإسلامية هي فتنة الانحراف عن موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين، فسطرنا هذه الصفحات إعذاراً وإنذاراً لأمتنا المسلمة في صحوتها المباركة وجهادها المنصور –بإذن الله- على الحملة الصليبية الأمريكية اليهودية على أمة الإسلام
وقد قسمنا الكلام فيها إلى فصلين وخاتمة:
الفصل الأول عن: أركان الولاء والبراء في الإسلام
والفصل الثاني عن: صور من الانحراف عن عقيدة الولاء والبراء
وخاتمة عن: المعاني التي نود التأكيد عليها
فما كان فيها من خير فهو من توفيق المولى سبحانه وما كان فيها من غير ذلك فهو من أنفسنا والشيطان، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب هود 88 وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
أيمن الظواهري
شوال 1423هـ ، ديسممبر 2002
الفصل الأول: أركان الولاء والبراء في الإسلام
1- النهي عن تولي الكافرين
قال الله تعالى: لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير آل عمران 28
قال الطبري رحمه الله: "ومعنى ذلك لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفار ظهراً وأنصاراً، توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدلونهم على عوراتهم، فإنه من يفعل ذلك فليس من الله في شيء، يعني بذلك فقد برىء من الله وبرىء الله منه بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر" تفسير الطبري ج3 ص227
وقال الله تعالى: بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاًالنساء 139
وقال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً النساء 144 قال الطبري رحمه الله: "يقول لهم جل ثناؤه يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله لا توالوا الكفار فتوازروهم من دون أهل ملتكم ودينكم من المؤمنين فتكونوا كمن أوجب له النار من المنافقين" تفسير الطبري ج5 ص337
وقال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين، فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين، ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين، يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم، إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون، يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين، وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً ولعباً ذلك بأنهم قوم لا يعقلون المائدة 51- 58
قال الطبري رحمه الله: "يعني تعالى ذكره بقوله: ومن يتولهم منكم فإنه منهم ومن يتول اليهود والنصارى دون المؤمنين فإنه منهم يقول: فإن من تولاهم ونصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم وملتهم، فإنه لا يتولى متول أحداً إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض، وإذا رضيه ورضي دينه فقد عادى ما خالفه وسخطه وصار حكمه حكمه" تفسير الطبري ج6 ص277
وقال ابن حجر العسقلاني في شرح حديث ابن عمر رضي الله عنهما : " إذا أنزل الله بقوم عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم" رواه البخاري 7108
قال ابن حجر رحمه الله : "ويستفاد من هذا مشروعية الهرب من الكفار ومن الظلمة لأن الإقامة معهم من إلقاء النفس إلى التهلكة، هذا إن لم يعنهم ولم يرض بأفعالهم، فإن أعان أو رضي فهو منهم" فتح الباري ج31 ص61
ولذلك أوجب الله سبحانه لهم الخلود في النار، قال تعالى: ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون، ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون المائدة 80
وقال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون، قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقينالتوبة 32، 24 قال ابن كثير رحمه الله: "وروي الحافظ البيهقي من حديث عبد الله بن شوذب قال: جعل أبو أبي عبيدة بن الجراح ينعت له الآلهة يوم بدر، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر الجراح قصده ابنه أبو عبيدة فقتله، فأنزل الله فيه هذه الآية
وقد ثبت في الصحيح خ 15 م44 عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين" " تفسير ابن كثير ج2 ص343، 344
أ- الفرق بين الموالاة والتقية
فرقت الشريعة بين موالاة الكافرين المنهي عنها وبين اتقاء شرهم، قال الله تعالى: لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير آل عمران 28 قال ابن كثير رحمه الله: "وقوله تعالى: إلا أن تتقوا منهم تقاة أي من خاف في بعض البلدان والأوقات من شرهم، فله ان يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته، كما قال البخاري: عن أبي الدرداء أنه قال: إنا لنكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم وقال الثوري قال ابن عباس: ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان" تفسير ابن كثير ج1 ص358 والكَشْرُ: بدو الأسنان عند التبسم لسان العرب ج5 ص142
وقال رحمه الله في تفسير قوله تعالى وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأت فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيت في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين: "وهذا مثل ضربه الله للمؤمنين، أنهم لا تضرهم مخالطة الكافرين إذا كانوا محتاجين إليهم، كما قال تعالى: لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة" تفسير ابن كثير ج4 ص394
وقال القرطبي رحمه الله: "قال معاذ بن جبل ومجاهد: كانت التقية في جدة الإسلام قبل قوة المسلمين، فأما اليوم فقد أعز الله الإسلام أن يتقوا من عدوهم قال ابن عباس: هو أن يتكلم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان ولا يقتل ولا يأتي مأثماً قال الحسن: التقية جائزة للإنسان إلى يوم القيامة، ولا تقية في القتل
وقيل: إن المؤمن إذا كان قائماً بين الكفار فله أن يداريهم باللسان إذا كان خائفاً على نفسه وقلبه مطمئن بالإيمان والتقية لا تحل إلا مع خوف القتل أو القطع أو الإيذاء العظيم ومن أكره على الكفر فالصحيح أن له أن يتصلب ولا يجيب إلى التلفظ بكلمة الكفر، بل يجوز له ذلك" تفسير القرطبي ج4 ص57
وقال الطبري رحمه الله: "إلا أن تتقوا منهم تقاة إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مسلم بفعل" تفسير الطبري ج3 ص227
ويؤيد هذا ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- لما تكلم عمن أكرهه التتار على الخروج في جيشهم، فقال رحمه الله: "وإذا كان الجهاد واجباً وإن قتل من المسلمين ما شاء الله، فقتل من يقتل فى صفهم من المسلمين لحاجة الجهاد ليس أعظم من هذا
بل قد أمر النبى المكره فى قتال الفتنة بكسر سيفه، وليس له أن يقاتل وإن قتل، كما فى صحيح مسلم عن أبى بكرة قال: قال رسول الله: "إنها ستكون فتن، ألا ثم تكون فتن، ألا ثم تكون فتن، القاعد فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، ألا فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بابله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه"، قال: فقال رجل: يا رسول الله أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض، قال: "يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن إستطاع النجاة، اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت" فقال رجل: يا رسول الله أرأيت أن أكرهت حتى ينطلق بى إلى إحدى الصفين أو إحدى الفئتين، فيضربني رجل بسيفه أو بسهمه فيقتلني، قال: "يبوء باثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار"
ففى هذا الحديث أنه نهى عن القتال فى الفتنة، بل أمر بما يتعذر معه القتال من الاعتزال أو إفساد السلاح الذى يقاتل به، وقد دخل فى ذلك المكره وغيره، ثم بين أن المكره إذا قتل ظلماً كان القاتل قد باء باثمه وإثم المقتول، كما قال تعالى فى قصة إبنى آدم
والمقصود أنه إذا كان المكره على القتال فى الفتنة ليس له أن يقاتل، بل عليه إفساد سلاحه وأن يصبر حتى يقتل مظلوماً، فكيف بالمكره على قتال المسلمين مع الطائفة الخارجة عن شرائع الإسلام كمانعي الزكاة والمرتدين ونحوهم، فلا ريب أن هذا يجب عليه إذا أكره على الحضور أن لا يقاتل وإن قتله المسلمون، كما لو أكرهه الكفار على حضور صفهم ليقاتل المسلمين، وكما لو أكره رجل رجلاً على قتل مسلم معصوم، فإنه لا يجوز له قتله بإتفاق المسلمين، وإن اكرهه بالقتل فإنه ليس له حفظ نفسه بقتل ذلك المعصوم" مجموع الفتاوى ج 28 ص 538، 539
فالخلاصة: أن المسلم إذا واجه ظروفاً تعرض فيها للقتل أو القطع أو الإيذاء العظيم فيجوز له أن يتلفظ ببعض الكلمات ليرد بها أذى الكافرين، دون أن يقوم بفعل يساندهم به أو يأتي مأثماً أو يعينهم على مسلم بفعل أو قتل أو قتال، والأفضل له أن يصبر على الأذى ولو أدى إلى قتله
2- بغض الكافرين وترك مودتهم
أ- نهانا الله سبحانه وتعالى أن نواد من حاد الله ورسوله
قال الله تعالى:لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون المجادلة 22 قال ابن كثير رحمه الله: "وقيل في قوله تعالى: ولو كانوا آباءهم نزلت في أبي عبيدة قتل أباه يوم بدر، أو أبناءهم في الصديق هم يومئذ بقتل ابنه عبد الرحمن، أو إخوانهم في مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يومئذ، أو عشيرتهم في عمر قتل قريباً له يومئذ أيضاً، وفي حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة يومئذ فالله أعلم
قلت:ومن هذا القبيل حين استشار رسول الله -صلى الله عليه وءاله وسلم- المسلمين في أسارى بدر، فأشار الصديق بأن يفادوا فيكون ما يؤخذ منهم قوة للمسلمين، وهم بنو العم والعشيرة، ولعل الله تعالى أن يهديهم، وقال عمر: "لا أرى ما رأى يا رسول الله، هل تمكنني من فلان -قريب لعمر- فأقتله، وتمكن علياً من عقيل، وتمكن فلاناً من فلان، ليعلم الله أنه ليست في قلوبنا موادة للمشركين" القصة بكمالها
وقال ابن عباس: وأيدهم بروح منه أي قواهم
وفي قوله تعالى: رضي الله عنهم ورضوا عنه سر بديع، وهو أنه لما سخطوا على القرائب والعشائر في الله تعالى عوضهم الله بالرضا عنهم وأرضاهم عنه" تفسير ابن كثير ج4 ص330، 331
وقال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل* إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداءً ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون* لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير*قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير* ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم *لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد* عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم*لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين* إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمونالممتحنة 1- 9 قال ابن كثير رحمه الله: "كان سبب نزول صدر هذه السورة الكريمة قصة حاطب بن أبي بلتعة

قال الإمام أحمد 179
أن عبيد الله بن أبي رافع أخبره أنه سمع علياً -رضي الله عنه- يقول: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنا والزبير والمقداد، فقال: "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب، فخذوه منها"، فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، قلنا: أخرجي الكتاب قالت: ما معي كتاب قلنا: لتخرجن الكتاب، أو لتلقين الثياب قال: فأخرجت الكتاب من عقاصها، فأخذنا الكتاب فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا حاطب ما هذا؟"، قال: لا تعجل علي، إني كنت أمرأً ملصقاً في قريش، ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم بمكة، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يداً يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفراً ولا ارتداداً عن ديني ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه صدقكم"، فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه قد شهد بدراً وما يدريك لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" وهكذا أخرجه الجماعة إلا ابن ماجة خ3007 م2494 د2650 ت3305 س كبرى11585 من غير وجه عن سفيان بن عيينة به، وزاد البخاري في كتاب المغازي 4274 فأنزل الله السورة يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء
يقول تعالى لعباده المؤمنين الذين أمرهم بمصارمة الكافرين وعداوتهم ومجانبتهم والتبري منهم: قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معهإذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم أي تبرأنا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم أي بدينكم وطريقكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً يعني وقد شرعت العداوة والبغضاء من الآن بيننا ما دمتم على كفركم، فنحن أبداً نتبرأ منكم ونبغضكم حتى تؤمنوا بالله وحده أي إلى أن توحدوا الله فتعبدوه وحده لا شريك له وتخلعوا ما تعبدون معه من الأوثان والأنداد" تفسير ابن كثير ج4 ص345- 349
وقال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور الممتحنة 13قال القرطبي رحمه الله: "قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم يعني اليهود، وذلك أن ناساً من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود بأخبار المؤمنين، ويواصلونهم فيصيبون بذلك من ثمارهم، فنهوا عن ذلك
وقيل: إن الله تعالى ختم السورة بما بدأها من ترك موالاة الكفار، وهي خطاب لحاطب بن أبي بلتعة وغيره

قال ابن عباس: يا أيها الذين آمنوا لاتتولوا أي لا توالوهم ولا تناصحوهم، رجع تعالى بطوله وفضله على حاطب بن أبي بلتعة " تفسير القرطبي ج 18 ص 76
ب- وأخبرنا سبحانه أن الكفار يبغضون المسلمين
قال الله تعالى: ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم البقرة 105
وقال الله تعالى: ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسداً من عند أنفسهم البقرة 109
وقال الله تعالى: هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور، إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط آل عمران 119- 120 قال القرطبي رحمه الله: "والمعنى في الآية: أن من كانت هذه صفته من شدة العداوة والحقد والفرح بنزول الشدائد على المؤمنين لم يكن أهلاً لأن يتخذ بطانة، لاسيما في هذا الأمر الجسيم من الجهاد الذي هو ملاك الدنيا والآخرة" تفسير القرطبي ج4 ص181- 183
ج- كما أخبرنا سبحانه أنهم لن يرضوا عن المؤمنين طالما استمروا على إيمانهم
قال الله تعالى: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير البقرة 120- 121
د- بل إنهم يتمنون أن يردوا المؤمنين كفاراً بعد إيمانهم
قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين آل عمران100
وقال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين آل عمران 149 قال ابن جرير الطبري رحمه الله: "يعني بذلك -تعالى ذكره- يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله في وعد الله ووعيده وأمره ونهيه، إن تطيعوا الذين كفروا يعني الذين جحدوا نبوة نبيكم محمد -صلى الله عليه وسلم- من اليهود والنصارى فيما يأمرونكم به وفيما ينهونكم عنه، فتقبلوا رأيهم في ذلك، وتنتصحوهم فيما تزعمون أنهم لكم فيه ناصحون، يردوكم على أعقابكم يقول: يحملوكم على الردة بعد الإيمان، والكفر بالله وآياته وبرسوله بعد الإسلام، فتنقلبوا خاسرين يقول: فترجعوا عن إيمانكم ودينكم الذي هداكم الله له، خاسرين يعني هالكين قد خسرتم أنفسكم وضللتم عن دينكم، وذهبت دنياكم وآخرتكم، ينهي بذلك أهل الإيمان بالله أن يطيعوا أهل الكفر في آرائهم وينتصحوهم في أديانهم تفسير الطبري ج4 ص122، 123

هـ- العلاقة بين محبة المولى –سبحانه- وموالاة المؤمنين والجهاد في سبيل الله
ونود بعد أن بينا أمر الشريعة بموالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين أن نذكر كلاماً نفيساً لشيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في العلاقة الوثيقة بين محبة المولى –سبحانه- والجهاد قال ابن تيمية رحمه الله: " واسم المحبة فيه إطلاق وعموم، فإن المؤمن يحب الله ويحب رسله وأنبياءه وعباده المؤمنين وإن كان ذلك من محبة الله، وإن كانت المحبة التي لله لا يستحقها غيره، فلهذا جاءت محبة الله مذكورة بما يختص به سبحانه من العبادة والإنابة إليه والتبتل له ونحو ذلك، فكل هذه الأسماء تتضمن محبة الله سبحانه وتعالى
ثم إنه كان بيَّن أن محبته أصل الدين فقد بيَّن أن كمال الدين بكمالها، ونقصه بنقصها، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله"، فأخبر أن الجهاد ذورة سنام العمل، وهو أعلاه وأشرفه، وقد قال تعالى: التوبة أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله إلى قوله أجر عظيم، والنصوص في فضائل الجهاد وأهله كثيرة، وقد ثبت أنه أفضل ما تطوع به العبد، والجهاد دليل المحبة الكاملة، قال تعالى: التوبة قل إن كان آباؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم الآية وقال تعالى في صفة المحبين المحبوبين: المائدة يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم
فإن المحبة مستلزمة للجهاد، ولأن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض محبوبه، ويوالي من يوالي محبوبه، ويعادي من يعاديه، ويرضى لرضاه، ويغضب لغضبه، ويأمر بما يأمر به، وينهى عما نهى عنه، فهو موافق في ذلك
وهؤلاء هم الذين يرضى الرب لرضاهم، ويغضب لغضبهم، إذ هم إنما يرضون لرضاه، ويغضبون لما يغضب له، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر في طائفة فيهم صهيب وبلال: "لعلك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك" فقال لهم: يا إخوتي هل أغضبتكم، قالوا: لا يغفر الله لك يا أبا بكر
وكان قد مر بهم أبو سفيان بن حرب فقالوا: ما أخذت السيوف مأخذها، فقال لهم أبو بكر: أتقولون هذا لسيد قريش؟ وذكر أبو بكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له ما تقدم، لأن أولئك إنما قالوا ذلك غضباً لله لكمال ما عندهم من الموالاة لله ورسوله والمعاداة لأعدائهما، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح فيما يروى عن ربه: "لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا احببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته ولا بد له منه" التحفة العراقية ج1 ص63، 64

وقال ابن تيمية رحمه الله عن موالاة اليهود والنصارى: "فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورث المحبة والموالاة، فكيف بالمشابهة في أمور دينية، فإن إفضاءها إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد
والمحبة والموالاة لهم تنافي الإيمان قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين، فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين، ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين، وقال تعالى فيما يذم به أهل الكتاب: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون، ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون، ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون
فبين سبحانه وتعالى أن الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه مستلزم لعدم ولايتهم، فثبوت ولايتهم يوجب عدم الإيمان، لأن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم
وقال سبحانه وتعالى: لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه فأخبر سبحانه وتعالى أنه لا يوجد مؤمن يواد كافراً فمن واد الكفار فليس بمؤمن، فالمشابهة الظاهرة مظنة المودة فتكون محرمة كما تقدم تقرير مثل ذلك اقتضاء الصراط المستقيم ج1 ص221، 222
وقال أيضاً رحمه الله: "والمؤمن عليه أن يعادى فى الله، ويوالى فى الله، فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه، وإن ظلمه، فان الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية، قال تعالى: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فان بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا إن الله يحب المقسطين، إنما المؤمنون أخوة، فجعلهم أخوة مع وجود القتال والبغى والأمر بالاصلاح بينهم
فليتدبر المؤمن الفرق بين هذين النوعين، فما أكثر ما يلتبس أحدهما بالآخر، وليعلم أن المؤمن تجب موالاته وان ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وان أعطاك وأحسن اليك، فان الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله، فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه، والإكرام لأوليائه والاهانة لأعدائه، والثواب لأوليائه والعقاب لأعدائه
واذا اجتمع فى الرجل الواحد خير وشر وفجور وطاعة ومعصية وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعادات والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع فى الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته، هذا هو الأصل الذى اتفق عليه أهل السنة والجماعة" مجموع الفتاوى ج28 ص207- 209

و- رد شبهة
فإن قيل فما معنى قوله تعالى: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين؟ ألا يدل هذا على جواز التودد إلى الكفار ومحبتهم؟
والرد عليها أن البر وهو إيصال الخير، والقسط وهو العدل، لا يدخلان في الموالاة المحرمة التي تتضمن المحبة والتواد والنصرة باليد واللسان والمتابعة في الاعتقاد والأفعال واتخاذ الكافرين بطانة وإطلاع الكافرين على أسرار المسلمين
قال الشافعي رحمه الله: "قال الله عز وجل: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدينالآيتين، قال: يقال -والله أعلم- إن بعض المسلمين تأثم من صلة المشركين، أحسب ذلك لما نزل فرض جهادهم، وقطع الولاية بينهم وبينهم، ونزل لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسولهالآية، فلما خافوا أن تكون المودة الصلة بالمال أنزل لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا عل إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون
قال الشافعي رحمه الله: وكانت الصلة بالمال والبر والإقساط ولين الكلام والمراسلة بحكم الله غير ما نهوا عنه من الولاية لمن نهوا عن ولايته مع المظاهرة على المسلمين، وذلك أنه أباح بر من لم يظاهر عليهم من المشركين والإقساط إليهم، ولم يحرم ذلك إلى من أظهر عليهم، بل ذكر الذين ظاهروا عليهم فنهاهم عن ولايتهم، وكان الولاية غير البر والإقساط، وكان النبي فادى بعض أسارى بدر وقد كان أبو عزة الجمحي ممن من عليه، وقد كان معروفاً بعداوته والتأليب عليه بنفسه ولسانه، ومن بعد بدر على ثمامة بن أثال وكان معروفاً بعداوته، وأمر بقتله ثم من عليه بعد إساره، وأسلم ثمامة، وحبس الميرة عن أهل مكة، فسألوا رسول الله أن يأذن له أن يميرهم، فأذن له فمارهم، وقال الله عز وجل: ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً والأسرى يكونون ممن حاد الله ورسوله" أحكام القرآن للشافعي -رحمه الله- ج2 ص191- 194
قال ابن القيم -رحمه الله- مبيناً جواز الصدقة والوقف على مساكين أهل الذمة: "لقوله تعالى: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون فإن الله سبحانه لما نهى في أول السورة عن اتخاذ المسلمين الكفار أولياء، وقطع المودة بينهم وبينهم، توهم بعضهم أن برهم والإحسان إليهم من الموالاة والمودة، فبين الله سبحانه أن ذلك ليس من الموالاة المنهي عنها، وأنه لم ينه عن ذلك، بل هو من الإحسان الذي يحبه ويرضاه وكتبه على كل شيء، وإنما المنهي عنه تولي الكفار والإلقاء إليهم بالمودة أحكام أهل الذمة ج1 ص602

قال ابن كثير رحمه الله: "وقوله تعالى: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أي لا ينهاكم عن الإحسان إلى الكفرة الذين لا يقاتلونكم في الدين، ولم يظاهروا أي يعاونوا على إخراجكم كالنساء والضعفة منهم، أن تبروهم أي تحسنوا إليهم، وتقسطوا إليهم أي تعدلوا، إن الله يحب المقسطين
وقال الإمام أحمد 6345 حدثنا هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا، فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها؟ قال: "نعم صِلي أمك" أخرجاه خ5219 م2130" تفسير ابن كثير ج4 ص350- 351
3- النهي عن اتخاذهم بطانة والإدلاء إليهم بأسرار المسلمين
قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون آل عمران 118
قال القرطبي رحمه الله: "والبطانة مصدر يسمى به الواحد والجمع، وبطانة الرجل خاصته الذين يستبطنون أمره
نهى الله عز وجل المؤمنين بهذه الآية أن يتخذوا من الكفار واليهود وأهل الأهواء دخلاء وولجاء يفاوضونهم في الآراء، ويسندون إليهم أموالهم ويقال: كل من كان على خلاف مذهبك ودينك فلا ينبغي لك أن تحادثه قال الشاعر:
عن المرء لاتسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدى
وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل" وروي عن ابن مسعود أنه قال: "اعتبروا الناس بإخوانهم"
ثم بين تعالى المعنى الذي لأجله نهى عن المواصلة فقال: لا يألونكم خبالاً يقول: فساداً، يعني لا يتركون الجهد في فسادكم، يعني أنهم وإن لم يقاتلوكم في الظاهر فإنهم لايتركون الجهد في المكر والخديعة
قوله: ودوا ماعنتم مصدرية، أي ودوا عنتكم، أي ما يشق عليكم، والعنت المشقة" تفسير القرطبي ج4 ص178- 181
4- النهي عن تولية الكفار في المناصب الهامة

قال ابن تيمية رحمه الله: "فروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قلت لعمر رضي الله عنه: إن لي كاتبا نصرانياً قال: "مالك قاتلك الله، أما سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ألا اتخذت حنيفاً" قال: قلت يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه، قال: "لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله" اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية ج1 ص50
وقال القرطبي رحمه الله: "وعن عمر -رضي الله عنه- قال: "لا تستعملوا أهل الكتاب فإنهم يستحلون الرشا، واستعينوا على أموركم وعلى رعيتكم بالذين يخشون الله تعالى" وقيل لعمر رضي الله عنه: إن ههنا رجلا من نصارى الحيرة لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم، أفلا يكتب عنك؟ فقال: "لا آخذ بطانة من دون المؤمنين" فلا يجوز استكتاب أهل الذمة ولا غير ذلك من تصرفاتهم في البيع والشراء والاستنابة إليهم
قلت: وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبة وأمناء، وتسودوا بذلك عند الجهلة الأغبياء من الولاة والأمراء " تفسير القرطبي ج4 ص179
وقال ابن تيمية رحمه الله: "ولا يستعان بأهل الذمة في عمالة ولا كتابة لأنه يلزم منه مفاسد أو يفضي إليها
وسئل أحمد في رواية أبي طالب: في مثل الخراج؟ فقال: لا يستعان بهم في شيء ومن تولى منهم ديواناً للمسلمين أينقض عهده؟ ومن ظهر منه أذى للمسلمين أو سعى في فساده لم يجز استعماله، وغيره أولى منه بكل حال، فإن أبا بكر الصديق رضي الله عنه عهد أن لا يستعمل من أهل الردة أحداً، وإن عاد إلى الإسلام لما يخاف من فساد ديانتهم" الفتاوى الكبرى، الاختيارات العلمية، كتاب الجهاد، ج4 ص607 وما بعدها
5- النهي عن تعظيم شعائر الكفار ورسومهم، والنهي عن موافقة الكفار والمرتدين على باطلهم وتزيين ذلك ومدحه
قال شيخ الاسلام رحمه الله: "فصل فى الولاية والعداوة
فإن المؤمنين أولياء الله، وبعضهم أولياء بعض، والكفار أعداء الله وأعداء المؤمنين، وقد أوجب الموالاة بين المؤمنين وبين أن ذلك من لوازم الإيمان، ونهى عن موالاة الكفار، وبين أن ذلك منتف فى حق المؤمنين وبين حال المنافقين فى موالاة الكافرين
وقال: إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم، ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم فى بعض الأمر والله يعلم إسرارهم، وتبين أن موالاة الكفار كانت سبب ارتدادهم على أدبارهم

ولهذا ذكر فى سورة المائدة أئمة المرتدين عقب النهى عن موالاة الكفار؛ قوله: ومن يتولهم منكم فإنه منهم، وقال: يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون فى الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواهم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا، فذكر المنافقين والكفار المهادنين، وأخبر أنهم يسمعون لقوم آخرين لم يأتوك وهو استماع المنافقين والكفار المهادنين للكفار المعلنين الذين لم يهادنوا
كما أن فى المؤمنين من قد يكون سماعاً للمنافقين، كما قال: وفيكم سماعون لهم، وبعض الناس يظن أن المعنى سماعون لأجلهم بمنزلة الجاسوس أى يسمعون ما يقول وينقلونه اليهم
وإنما المعنى فيكم من يسمع لهم أى يستجيب لهم ويتبعهم، كما فى قوله سمع الله لمن حمده استجاب الله لمن حمده أى قبل منه، يقال فلان يسمع لفلان أى يستجيب له ويطيعه
فمن كان من الأمة موالياً للكفار من المشركين أو أهل الكتاب ببعض أنواع الموالاة ونحوها -مثل إتيانه أهل الباطل واتباعهم فى شئ من مقالهم وفعالهم الباطل- كان له من الذم والعقاب والنفاق بحسب ذلك
والله تعالى يحب تمييز الخبيث من الطيب والحق من الباطل، فيعرف أن هؤلاء الأصناف منافقون أو فيهم نفاق، وإن كانوا مع المسلمين، فإن كون الرجل مسلماً فى الظاهر لا يمنع أن يكون منافقاً فى الباطن
فإن المنافقين كلهم مسلمون فى الظاهر، والقرآن قد بين صفاتهم وأحكامهم، واذا كانوا موجودين على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفى عزة الاسلام مع ظهور أعلام النبوة ونور الرسالة، فهم مع بعدهم عنهما أشد وجوداً، لاسيما وسبب النفاق هو سبب الكفر وهو المعارض لما جاءت به الرسل " مجموع الفتاوى ج28 ص190- 202